التطبيع .. مُباغتة أم جس نبض ؟!
ــ ا.د جهاد كاظم العكيلي ..
حين نتحدث عن السياسة وفنونها وأساليبها في الإستمالة والترويض النفسي للجمهور، إن صح التعبير، والتي تعتمد علي تغيير الحقائق، وإخماد مشاعر الناس وتوجيه قضايا الشعب نحو أمور هامشية، فإن هذا يعني اللعب بالزمن صار على حساب حاجات المواطن ومطالبه في التغيير والتطور المنشود ..
إن هذه الأمور وغيرها من خبايا السياسة طحنت الشعب العراقي وأذاقته المُر منذ أن تأسست الدولة العراقية الحديثة مرورا بكافة الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد وحتى يومنا هذا، وأمثلة الواقع العراقي كثيرة ومريرة حين أوهمت هذه الأنظمة الشعب بشعارات رنانة مزيفة أكلت من عُمر الوطن، وأدت به إلى التراجع والخذلان من دون أن يحصد شيء من وراء تلك السياسات التي أهدرت الدماء والثروات مقابل وطن لا يزال يترنح من الجوع والخوف وتسلط البعض على البعض الآخر ..
هذا هو العراق .. (حروب .. حصارات .. جور الحكام) .. إنها ثلاثية قاتلة تُطوق رقاب الشعب حتى وصل الحال ببعض الناس أن يجاهروا علنا بإمنياتهم في أن يحكمهم يهودي ولا هذا الحاكم أو ذاك! ..
ولا أدري إن كانت سياسات هؤلاء الذين حكموا العراق، كانت مقصودة أم غير مقصودة، لكن الذي أعرفه، أن تلك السياسات الثلاثية القاتلة هي التي دفعت بالمواطن في أن يتمنى أن يحكمه يهودي ولا هذا الحاكم أو ذاك، ويقينا أن هذا المواطن أو ذاك لم يكن ليطلق تمنيه هذا لولا سياسات الحكام هذه وثالثوها القاتل، وهو ما وفرَ التربة الخصبة أمام الإجندات الأجنبية، ومنها على وجه الأخص الأجندة الأسرائيلية لتمر بسهولة ومن أوسع الأبواب في عراق الخيرات والثروات والمال لتحقيق حُلمها الموعود في العراق ..
في هذا السياق شكلت سنة إحتلال العراق 2003 والسنوات اللاحقة طامة أشد ايذاءً وألما للمواطن من ذي قبل وبثالوث جديد لا يختلف كثيرا عن الثالوث الأول (إرهاب ممنهج ــ سرقة ممنهجة ــ جوع وحرمان وفقر) حتى وفرَ هذا الثالوث المضاف حالة أخرى أمام قوى الشر سواء أكانت داخلية أو خارجية، وصارت تنمو وتنتشر لتقطيع ما تبقي من أوصال العراق ..
ومن مشهد الإحتلال هذا بدأت مشاهد المسرح السياسي متلائمة وواضحة للعيان وهي تدعي بإنها رموز سياسية وقوي حزبيه وأخرى تدعي إنها دينية ومنظمات تتباكى على الحقوق العراقية وغيرها وهي التي أمسكت بالمشرط السياسي بكل وضوح وجرأة لأن تلعب الدور الذي يتيح لإدخال العراق في ما تسعى له الأجندة الإسرائيلة تحقيق حلمها (من النيل إلى الفرات) ، التي بدأت لهذا الغرض بحملات تثقيف واسعة النطاق عبر إقامة دورات وندوات وحوارات وبإدارة مراكز متخصصة تُدار من قبل الغرب ومراكز أخرى أنشأت في العراق لإستمالة ما تبقى من الرافضين والمتصدين لهذه الأجندة الشريرة ..
والمتطلع على أهداف هذه الأجندة الشريرة يجد مدى حجم التآمر الذي يتعرض له العراق ومنه العمل على زيادة البطالة بين صفوف الشباب لكي يكونوا لقمة سائغة يمكن إستمالتهم للعمل من إجل العيش، وتوظيف خدمتهم لاحقا لتفتيت العراق وتهديمه، وتكميم الأفواه وتهميش الكفاءات الوطنية الفاعلة ومنهم حملة الشهادات العلمية والمعرفية الرصينة من خلال زرع مسؤولين فاشلين في مؤسسات الدولة ليتحقق إبعاد هؤلاء تحت شعار (وضع الشخص غير مناسب في المكان المناسب) في مجمل الإختصاصات العراقية، فضلا عن تسيس الدين وتسفيه المبادئ السامية التي جاءت بها الأديان لخدمة الإنسان وصيانة ماله وعرضه والحفاظ على بلده، وأمور أخرى لا تعد ولا تحصى لعبت وتلاعبت بقدر العراق والعراقيين، وبشكل محسوب ومرسوم وبذكاء خبيث ..
ورغم كل ما يحدث من هذا في العراق لكن لا زالت العقول الوطنية في حال تنبيه شعبي دائم لما جرى ويجري كونهم يدركون ما يدور من حولهم، وجديدها إدخال العراق في منظومة التطبيع على غرار ما حصل في دول عربية كثيرة، وأمام هذا التصدي كان لابد للأجندة الشريرة من تحريك القوى الناعمة التي تم إعدادها سلفا للدعوة لهذا التطبيع، لكن الشعب كشف حقيقة هؤلاء المطبعين وتعرَّف على أسماءهم، وتعرَّف على المنظومة الناعمة المخبأة تحت أسماء قوى سياسية وأخرى دينية ولاءها ليس للعراق ..
هذه هي القوى الناعمة التي مهدت ولا زالت تمهد لزعزعة وضع العراق أكثر وأكثر لتجعل منه قاعة كبيرة تعقد مؤتمراتها دوليا ومحليا وتروج لإسرائيل بوصف أن الذين يقودونها يهود هم أبناء العمومة، وما حدث في مؤتمر أربيل على وفق ذلك الظهور المفاجئ للمؤتمر، الذي ضم عناصر من قبائل وشيوخ وسياسيين، وفي وقت غير إعتيادي، يدعو إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، إدعى الإقليم أن هذا المؤتمر الناعم لم يكن ليعرف بعقده وإن عقده على الشكل الفاضح كان بمثابة مباغتة ولا علم لهم به .. وهذا ما آثار إستغراب وحفيظة الأوساط السياسية المحلية والدولية .. وعلى إثر ذلك ظهرت تفسيرات عديدة لا تخرج عن إطار أن أهداف المؤتمر هو لجس نبض الشارع العراقي كخطوة تبنى عليه خطوات أخرى لإكمال الحلم الاسرائيلي في العراق ..